الطبيعة
إن استمرار بقاء الإنسان على كوكب الأرض، يعتمد على طريقة تعامله مع مصدر الطبيعة من حوله. لذا، أصبح فهم الطبيعة ونظامها البيني، ضرورة قصوى في مواجهة الاتجاه المتعاظم لاستهلاكها وتدميرها في ظل النمط الرأسمالي.
ومع أن حل هذه المعضلة بتغيير أسس الحضارة الرأسمالية الاستهلاكية، سياسياً، فإن توعية الأفراد، عن طريق التربية ووسائل الاتصال الجماهيري، ووسائل الحفاظ على النظام البيئي، لها دور كبير في المحافظة على كوكبنا الجميل، وبيتنا المشترك.
يعد موضوع الكوارث الطبيعية وانعكاساتها في ذهنية وسلوك إنسان العصر الوسيط، من المناطق البحثية المعتمية التي لم يسبر غورها بشكل عميق في الدراسات التاريخية العربية، خاصة أن الموضوع يمثل حواراً "جدياً" بين تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان، ويكشف عن سقف التفاعل بين المتغيرات المناخية والإفرازات السلوكية والذهنية للإنسان. كما أنه يعد وبكل المقاييس موضوع إشكالياً مفعماً بالمطلبات التي تمتزج فيها ندرة المتون النصية بالتعقيدات المنهجية التي تفرضها طبيعة موضوع بهذه الشاكلة.
ومع ذلك أبي مؤلف هذا الكتاب الدكتور عبد الهادي البياض، إلا أن يقتحم غياهب هذا الموضوع، ويخترق المسكوت عنه في الكتابة التاريخية، ليبحر في مرحلة يلفها الغموض وأفبهام تمتد من القرن السادس حتى الثامن للهجرة، ويتداخل فيها الزمن التاريخي بالزمن الاجتماعي بالزمن الذهني، ليكشف عن دور الكوارث الطبيعية في نسج خيوط البنيات السلوكية، ويجس نبض المعتقدات الشعبية والمشاعر والأحاسيس لإنسان المغرب والأندلس خلال تلك الحقبة.
ومن خلال انفتاحه أيضاً عن مقاربات منهجية يتقاطع فيها المنهج الكمي الإحصائي مع الرؤى السوسيولوجية والأنتروبولوجية والتحليل النفسي والسلوكي، استطاع المؤلف أن يقدم مسحاً كمياً لأصناف الكوارث الطبيعية التي عصفت بالمغرب والأندلس خلال الفترة مدار البحث في شكل "تاريخ جداولي" متميز، ويحلل في براعة واقتدار كيف تتحول معاني ودلالات القيم الاجتماعية مع التغيرات المناخية، وكيف تفرز الكوارث الطبيعية كالمجاعات والقحوط والفيضانات والزلازل أنماطاً سلوكية مختلفة وغريبة، تمتزج فيها السلوكات العدوانية كالسلب والنهب والغضب والاحتكار، والارتداد نحو الطور "الوحشي" البدائي حيث يصبح الإنسان مفترساً وآكلاً للنبات والحشائس، ومستهلكاً -بامتياز- لعالم الخرافة والسحر، بالسلوكات "الإنسانية" المؤسسة على إبداع التدابير العلمية والعملية لإدارة أزمة المناخ والكوارث الطبيعية، وإشاعة ثقافة التضامن والتكافل الاجتماعي لتجاوزها.