بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى كثرت نعماؤه ، وتجددت آلاؤه ، والصلاة والسلام على الرسول الهادي إلى الخيرات ، وعلى آله وأصحابه الكواكب النيرات. وبعد:
رغائب النفس سيل لا ينقطع.. ومد ليس له نهاية!
تنوعت مطالبها.. وتتابعت أمانيها!
لا يردُّها الكثير.. ولا يقف دون آمالها الجلل الخطير!
وهي سلطان على الضعيف.. وغالبة بأهوائها لكل عنيف!
لا يردّ شرارها إلا حجاب التقى.. ولا يبدد ظلماتها إلا أنوار الهدى!
هواها هوان.. وسلطانها عسف وطغيان!
الضعيف حقًا من كان من أجنادها.. والخائر بحق من وقف في صف أنصارها!
حازم من بسوط التأديب ساسها.. وسيد من بالعصيان سادها!
وكم بين هذين من درجات: من أطاعها.. ومن عصاها!
مطيعها في رق دائم.. وحكم غاشم!
ومن عصاها؛ في عز مكين.. وسلطان حصين!
فيا أيها المذنب! احذر هوى النفس!
قد علمت السيد من العبد.. فالسيد حقًا: من عصى هوى النفس.. والعبد حقًا: من تابع هوى النفس!
وإذا رأيت الرجل؛ سريعًا إلى هواه.. غير ناظر في المعايب.. ولا ملتفت إلى العواقب.. فاعلم أنه في رق شديد.. وأغلال من حديد!
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
قال الأصمعي: «وقال بعض العرب: الهوى هوان، ولكن غلط باسمه»!.
أيها المذنب! النفس لجوج! إذا هوت أهلكت!
فاحذر – أيها المسكين – هواها.. وتجنب حبالها.. فإنك لن تسلم إلا إذا عصيتها.. وإذا أردت الهلاك؛ فجرِّب طاعتها!
قال يحيى بن معاذ: «أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات».
فاحذر – أيها المسكين – النفس.. فكم لها من صولات.. وكم هالك في حلباتها!
أيها المذنب! أعجز الخلق من عجز عن رد هواه!
كم من قوي.. أردته النفس بشهواتها.. وكم من شديد قهرته النفس بهواها!
فبينما ترى الإنسان متعاظمًا بقوته.. تائهًا ببطشه.. إذا به أمام رغائب النفس؛ أضعف من الذباب وأوهى من خيط العنكبوت!
قال إبراهيم القصار: «أضعف الخلق من ضعف عن رد شهوته، وأقوى الخلق من قوي على ردها».
فيا من صرت تابعًا لهواك.. منقادًا لأمره.. اعلم أنك من أضعف الخلق.. وأوهنهم إرادة!
ويا من غلبت هوى النفس.. وقهرت جيوش مطالبها.. اعلم أنك أقوى الناس إرادة.. وأعزهم سيادة!
قال رسول الله r: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». [رواه البخاري ومسلم]
أيها المذنب! إن قهر الهوى؛ شرف عظيم.. ومنزلة عالية.. ولذة لا تعلوها لذى!
بل إن الشيطان ليتحاشى أولئك الذين انتصروا على هواهم!
قال أبو الحجاج المهدي: «من جعل شهوته تحت قدميه؛ فرق الشيطان من ظله»!
أيها المذنب! عليك بجهاد نفسك!!
يا مقهورًا أمام شهوات النفس وهواها.. هل شعرت أن جهادك هواك من أفضل الجهاد؟!
نعم.. إن المجاهد حقًا؛ هو الذي يجاهد نفسه.. ويردها عن هواها.. ونصره في هذه المعركة من أرفع أنواع النصر!
فما أيسر أن تقاتل عدوك في الظاهر.. ولكن جهادك النفس؛ جهاد شديد الوطيس.. ضروس!
قال رسول الله r: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب». [رواه أحمد وغيره/ السلسلة الصحيحة: 549]
أيها المذنب! لا تقفن بك النفس عند شهواتها.. وأنت بين يديها عبدًا.. مسوقًا.. لا تدري أين يذهب بك!
ولكن أدِّبها بأدب الدين.. وسُقها بين يديك راغمة.. إلى ما فيه سعادتها.. وفلاحها..
قال وهب بن منبه: «الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهما حرون، فإذا قاد القائد، ولم يسق السائق؛ لم يغن ذلك شيئًا، وإذا ساق السائق، ولم يقد القائد؛ لم يغن ذلك شيئًا، فإذا قاد القائد، وساق السائق؛ اتبعته النفس طوعًا وكرهًا، وطاب العمل».
أيها المذنب! الهوى هوان! ومن يرضى لنفسه بالهوان؟!
ولكن صاحب الهوى ؛ قد قاد نفسه مختارًا إلى هوانها.. وأهدى إليها شقاءها!
قال حذيفة بن قتادة: «قيل لرجل: كيف تصنع بنفسك في شهواتها؟ فقال: ما على وجه الأرض نفس أبغض إلي منها، فكيف أعطيها شهواتها»؟!
فتأمَّل في حالك – أيها الضعيف – كيف أنت إذا دعتك النفس إلى هواها؟!
هل أنت وقتها سيد عليها.. أم هي السيدة.. الآمرة؟!
فكم من عبد لهوى النفس.. وهو لا يشعر!
فيا تابعًا لهوى النفس.. ويا ضعيفًا أمام مطالبها.. اسمع نصيحة ابن الجوزي لك.
قال ابن الجوزي: «فيا أيها المرزوق عقلاً لا تبخسه حقه، ولا تطفئ نوره، واسمع ما تشير به، ولا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه، فإنك إن رحمت بكاءه؛ لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلاً فقيرًا!
لا تَسْهُ عن أدب الصغير
| | |
| | ولو شكا ألم التعبْ
|
وَدَعْ الكبيرَ لشأنه
| | |
| | كبر الكبيرُ عن الأدب»
|
| | | | |
أيها المذنب! لقد شبه لك ابن الجوزي النفس بالطفل الرضيع، الذي إن منع الرضاع بكى، فإن أعطي ما طلب دومًا؛ صعب فطامه، وشب على ذلك، وكذلك النفس؛ إن أعطيت مناها في كل ما تطلب؛ صعب تأديبها، وشق قيادها..
فاحذر – أيها العاقل – هوى النفس.. وكن عاصيًا لها عند مناها.. عنيدًا عند رغائبها..
وزمها بزمام الطاعات.. وقدها راغمة.. تسلس لك إن شاء الله تعالى.. وتنقاد طائعة.. إلى طريق فلاحها..
أيها المذنب! واعلم أنك إن قهرت هوى النفس.. فأنت السيد حقًا..
قيل لخالد بن صفوان: «بم ساد الأحنف؟ قال: بفضل سلطانه على نفسه».
وقيل لأعرابي: «من تعدُّون السيد فيكم؟ قال: من غلب رأيُه هواه، وسبق غضبَه رضاه، وكف عن العشيرة أذاه».
أيها المذنب! واعلم أنك إن جاهدت الهوى.. ورفضت المعاصي.. فإنك متقرب إلى الله تعالى بأعظم القربات!
قال محمد بن كعب القرظي: «ما عُبد الله بشيء قط أحب إليه من ترك المعاصي»!.
وقال سهل: «أعمال يعملها البر والفاجر، ولا يتجنب المعاصي إلا صدِّيقٌ»!
ثم اعلم – أيها المذنب – أنك إن صدقت النية.. وجاهدت هوى النفس جهادًا شديدًا.. وعزمت على المسير على درب الطاعات.. هداك الله تعالى إلى مراضيه.. ووفقك إلى سبل طاعته..
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «والذين جاهدوا في طاعتنا؛ لنهدينهم سبل ثوابنا».
أيها المذنب! خلاف الهوى أشرف الأعمال!
لما كان خلاف الهوى قائدًا إلى كل خير؛ كان أشرف الأعمال.. فالنفس إن لم تألف الطاعات؛ نفرت.. وتباعدت عن فعلها.. وإن ألفت الطاعات؛ ارتاحت لفعلها.. وسهلت عليها..
قال عمر بن عبد العزيز: «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس».
وقال أبو سليمان الداراني: «أفضل الأعمال خلاف هوى النفس».
ويكفي في شرف مخالفة الهوى؛ أنه يسوق صاحبه إلى الجنة!
فإن مخالفة الهوى باب يدخل منه أهل الصبر عن الشهوات إلى الجنة..
قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-41].
قال سهل بن عبد الله: «ترك الهوى مفتاح الجنة، لقوله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}».
وعن أبي سليمان الداراني في قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12] قال: «صبروا عن الشهوات».
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أخبرنا النبي r أن منهم: «وشاب نشأ في عبادة ربه».
[رواه البخاري ومسلم]
قال الحافظ ابن حجر: «خص الشاب؛ لكونه مظنة غلبة الشهوة، لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد، وأدل على غلبة التقوى».
أيها المذنب! تلك هي الغنيمة التي يفوز بها من غلب هواه.. إنها: «الجنة»! سلعة الله الغالية.. وأكرم دار!
فاختر لنفسك – أيها المسكين – مجاهدة الهوى.. ثم الجنة.. أو متابعة الهوى.. ثم النار!
أيها المذنب! فلا يلهينك عاجل الشهوة عن جنة الله تعالى.. فكم في ذلك من غرور.. وخسران!
أيها المذنب! الهوى شر بضاعة!
إذا فاز أهل الطاعات بالربح الوافر.. والخير الغزير.. فإن أهل المعاصي والهوى؛ من أوكس الناس ربحًا.. وأخسرهم تجارة!
ربحوا السيئات.. وخسروا الصالحات!
مضت أيامهم في زراعة الخطايا.. ويا لبئس ما زرعوا! حصدوا المرارات... وخسروا الجنات!
قال ابن مسعود t: «إنكم في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا؛ فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا؛ فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع ما زرع».
أيها المذنب! احذر بضاعة السوء.. (الهوى!) كحذرك من الصفقة الخاسرة.. واحزن على قوات الربح من الحسنات.. كحزنك على فوات الربح من الدريهمات! وإيَّاك وغبن يوم الدين! يوم يأتي أهل الطاعات بالحسنات.. ويأتي المذنبون بالسيئات!
أيها المذنب! لا تمحق عمرك بمتابعة الهوى!
إن أقبح ما ضيع فيه العمر؛ ركوب المعاصي.. ومتابعة الهوى! فترى الساعات والأيام تمضي.. وصاحبها مشغول بملذات النفس.. ومطالب هواه!
بل والأقبح أن تنقضي أيام الشبيبة والقوة في مطاردة الهوى.. حتى يجف العود.. وتذبل زهرة الشباب!
وصدق النبي r إذ أخبرنا عن ذلك بأوضح عبارة.. فقال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ».
[رواه البخاري]
قال ابن الجوزي: «ومن تمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله؛ فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله؛ فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم، كما قيل:
يسرُّ الفتى طولُ السلامة والبقا
| | |
| | فكيف ترى طولَ السلامة يَفْعَلُ
|
يرد الفتى بعدَ اعتدال وصحة
| | |
| | ينوءُ إذا رامَ القيامَ ويُحمَلُ
|
| | | | |
أيها المذنب! فتأمل في حالك.. كم من الساعات والأيام.. بل والشهور.. بل والأعوام! تذهب سُدىً في غير طاعة الله تعالى؟!
أتُرى عمرك الذي تضيعه في إجابة هواك.. أتُراه لا يُحسب من عمرك؟!
فأفق أيها الغافل! واعلم أنك تضيع كنزًا ثمينًا.. (عمرك)!
قال محمد بن حاتم الترمذي: «رأس مالك؛ قلبك، ووقتك، وقد شغلت قلبك بهواجس الظنون، وضيعت أوقاتك بارتكاب ما لا يعنيك، فمتى يربح من خسر رأس ماله»؟!
فيا من ضيعت العمر في لذاذات النفس.. وأفنيت أيامك في السعي خلف الشهوات.. أما سمعت بخبر أقوام لا تمضي أيامهم في غير التسبيح.. والذكر.. وفعل الصالحات؟!
نعم.. إنهم أقوام تلذذوا بالطاعات.. وشتَّان ما بين اللذتين: لذة أهل الطاعات.. ولذة أهل الذنوب والشهوات!
فالأولى: هي اللذة الحقيقية.. ينعم أصحابها بلذاتها في الدنيا والآخرة.. وأما الأخرى: فهي اللذة الكاذبة.. التي عميت بصائر أصحابها عن السعادة الحقيقية!
ومن أخبار الصالحين في هذا: جاء رجل إلى عامر بن عبد قيس، فقال له: كلمني؟ فقال له: أمسك الشمس!
وأعجب من هذا، دخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يصلي، فقيل له؟! فقال: الآن تُطوى صحيفتي!
فيا من لهوت باللهو.. وهويت مع الهوى.. تأمل في أخبار الصالحين.. فإن فيها جلاء للقلوب.. وحافزًا على فعل الطاعات..
فاعمر – أيها المذنب – أيامك بالطاعات.. وبادر ساعات العمر.. فما أسرع أن يبغتك الأجل.. وتزورك المنون.. فتتحسر على ساعات الغفلة.. وتندم على أيام اللهو!
النَّاس في غفلةٍ والموتُ يوقِظُهُمْ
| | |
| | وما يفيقون حتَّى يَنْفَدَ العُمُرُ
|
يشيِّعونَ أهاليهم بجمعهمُ
| | |
| | وينظرونَ إلَى مَا فيه قد قُبرُوا
|
ويرجعونَ إلَى أحلامِ غفلتهم
| | |
| | كأنهمْ ما رأوْا شيئًا ولا نَظَرُوا
|
| | | | |
أيها المذنب! داو نفسك بالدواء الناجع.. والترياق النافع! (مخالفة الهوى).
فإن أردت أن تكون السلامة قريبة منك.. فاعص النفس.. فإذا أمرتك بأمر فيه هواها.. فافعل ضده.. تسلم من شرورها.. وتنجو من معرة الهوى.
وإياك والاستسلام لهوى النَّفس.. فكم أهلكت من خلائق! فإنها ما زالت تدعوهم إلى مطالبها.. حتى انسلخوا عن الهُدى.. وزلَّت منهم الأقدام..
والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي محمد وآله وصحبه..